*
" أراكَ قريباً يا ضوءَ الشمس " ..
السـاعةُ الرابعـة والنصـف صَباحاً ، استيقظتُ نشيطـاً على غيرِ عـادتي ، رُغمَ
أنني لم أنمْ سِوى أربعةَ ساعاتٍ فقطْ .
ولكنهُ كـانَ على عكسي ، ظلَّ مُستيقظاً طوالَ الليل ، رُبما يحاولُ مزجَ الحنين
بعباراتِ اللقـاء ، أو ليمارسَ طقـوسَ الحُب والغياب على وسـادتهِ الليلية تحـت
أضواء السماء .
السـاعة الخـامسة تمـامـاً ، كـانَ صـديقي بـل أخـي " أيمن " قـد جهَّز حقيبتهُ
استعداداً للسفر ، ونظرَ من نافذتهِ إلى مدينتنا البعيدة ، يُودعها ويزرعها كوردةٍ
جـوريةٍ فـي فـؤادهِ الخصـبْ .. يُكـررُ أسماءنا في كـلِ حين ، قائلاً : ليسَ هنالكَ
أجملُ من صديقٍ يُصادقُ صِدقَ النهاياتْ ...
مَـرَّ الوقـتُ ؛ وتقابلنا جميعاً أمامَ العمارة ، كي نبدأ رحلةَ البحثِ عنا .. ! ، ركبنا
السيارة واتجهنا الى المعبرْ ، كانَ أخي جـالساً في المقعد الأمـامـي ، بينمـا
هوَ ينظرُ إلى الماضي بعينين فضيتين ، بينما أنـا أنظـرُ إليهِ بقلبٍ دافئٍ ،، أرى
فـي ملامـحِ وجههِ مستقبلاً مليءً بالنقاوةِ والهـدوء ، وأتمـنى أن تكـون رؤيتي
هذهِ خالية من غبارِ الروح .
السـاعـة السـادسة وبضع دقائق ، وصلنـا إلى آخِـر الليل ، ننتظرُ الصَّباح على
أكُـفِّ الرحيل ، مضـى الوقت .. ولمْ يبقَ إلا القليل ، ليُـنـادي مُنسِق الجـوازات
على أسماءِ المُسافرين كي يستلموا بطاقاتِهم .
( أيمن الشريف ) ، قُرب الساعةِ الثامنة وخمسة عشرة دقيقة ، كانَ قد نُوديَ
على أخِي ليـُنهيَ اجراءاتِ سفـره ، ونحنُ واقفـون هنـاك ، منتظـرين فـي تلك
السـاعة ، بزوغ شمسَ الجمـال التي تعودنا عليها كُلما رأيناه .
أمـا الساعـةُ التي لا أذكـرها جيـداً ، كُـنتُ حينها واقفـاً أمامـهُ ، أودِّعهُ بنظـراتٍ
عفويةٍ وابتساماتٍ راقصة ، قبَّلتُ كتفهِ عن غيرِ قصد ، واحتضنتهُ وبصحبتنا أربعة
عشرة سَنةٍ من الصداقةِ والأخوَّةِ الراقية .
صَعدَ أخي إلى الحافلة ، وبينما نحنُ نتبادلُ النظراتِ العميقة ،
- هوَ ينظرُ من خلفِ نافذةِ البحر ..
- وأنا في سَاحة الغروب ..
وعندما إشتدَّ الوجع ، سمعتهُ ينادي في صمتٍ خافتٍ : " تعالَ معي يا وليد " ،
فأجبتهُ : " سآتي قريباً يا صديقي " ..
وحينها كنتُ أرى شريطَ صداقتنا يُعرضُ أمـامي في بضـعِ دقائقَ ، أربعـة عشرة
عاماً من الوفاء ، دقيقة تلو دقيقة ، يوماً بعدَ يوم ، عاماً بعد عام .. كانَ الذي لا
يعرفنا جيداً ، يُناديني بأيمن ، وهو بوليد .. كنتُ أقرأ افكارهُ عن حُب ، وهو يقرأ
أيامنا في كتابِ السعادةِ ، الذي تركنـاهُ في كل مكانٍ إلتقينـا سَويـاً بهِ ، وفـي
كلِ مقعدٍ جلسنا سَوياً عليه ، وفي كل حياةٍ سنعيشها دوماً ...
ذهبتُ دونَ أن ألتفـتَ ورائـي ، لأنني لا أُجيدُ الإلتفـات ، ولأنني أحببتهُ دونَ أن
أشعُر ،، وهنا كانَ أيمن قد ذهب - ليعود إلينا ..
ولكنَّ الغـريـب بعـدَ ذلك ، أنـهُ عندمـا اجتمعـتُ مـع الأصـدقـاء ، وقـفـتُ مُتعجباً
أتساءلْ : " أينَ أيمن يا رفاق " !؟ ، نسيتُ أنهُ قد فارقني جَسَداً ، ولكنَ روحهُ
دائماً بجواري ...
كُـن علـى يقيـنٍ يـا أخـي بأنني سعيـدٌ جداً ، سأجلسُ علـى جميـع المقـاعد
التـي كُـنَّـا نجلس عليهـا ، وسـأذهـبُ إلـى كُلِ أماكِننا ، وسأقـف تحتَ شبـاكِ
غرفتكَ مُبتسماً سعيداً ، " بأنكَ أنتَ صديقي إلى الأبد " ...
{ أخوك : وليد الصيفي }